لا أستطيع النوم ، ولا حتى بقادر على البقاء مستيقظاً .
إلى جانب ذلك ، فإننى لا أشعر بأى شئ
مطلقا . كان بالتأكيد شيئاً ضخماً وثقيلا ، لم أستطع حتى رؤيته ، بدا
كإظلام مفاجئ وسريع ، فى مثل سرعة شرارة ناتجة عن طرق حجرين . بدأ كل شئ
منذ دقائق قليلة ، عندما كنت جائعا وأفكر فى شراء شئ للعشاء . تحديدا قبل
خمس دقائق من الآن ، وبالتأكيد قبل أن تمسك أنت هذه الأوراق وتقرأها ،
لأنها بالتأكيد ستعتبر فى عداد القصص !! أية كارثة ! آه مجرد قصة ،
وبالتالى أنت تقرأها . إذ منذ خمس دقائق قررت أن اشترى وجبة عشاء لفرد هو
أنا . وفى الطريق تذكرت أننى أريد شراء علبة سجائر أيضا ، ولأنه لا يمكنك
تفسير هذا الارتباط بينى وبين السجائر ، فربما أستطيع إيجازه فى عبارة
قصيرة :
أنا أدخن لأستمر فى الحياة ، أدخن
لأبدو حيا ، فإن التدخين بحد ذاته قادر على الإيحاء تماما بأنك ما تزال
تتنفس . ولكن وبينما أسير تجاه البقال ، صادفتنى مشكلة ، إذ أنه وبعد حسبة
بسيطة بدأت أعتقد أن شراء نصف علبة سجائر فقط هو الأفضل ، باعتبار الغد .
لأننى دائما أضع فى اعتبارى ضرورة تناول وجبتين ، وليس مهما أبدا أن
أتساءل ماذا أأكل ، المهم فقط أنهما وجبتان ، ومن دونهما لا أستطيع التأكد
من أن قدمى قادرتان على النهوض بى . ومع ذلك أصابتنى الحيرة مرة أخرى
وتعقدت الحسبة ، فقد اتضح لى أن شراء نصف علبة سجائر .. مجرد نصف علبة ،
يعنى الاستغناء عن إحدى وجبتى الغد ، وفى المقابل لا أستطيع الاستغناء عن
السجائر مطلقا .
عاد كل شئ ليتعقد ، وشعرت بالدماء
تتدفق إلى رأسى ، وتتلاطم فى العروق قريبا من أذنى ، وتحت فروة الرأس ، فى
العمق تماما . كنت أتحسس كل الأفكار محاولا النزول بتكاليف الوجبة الواحدة
إلى أدنى حد ، ولم ينجح ذلك ، إلى أن قررت – فى تردد – الاستغناء عن إحدى
وجبتى الغد ، بدعوى أنه لا أحد يعرف ما يحمله الغد .
بدأ دكان البقال يقترب بصورة مستفزة ،
فتوقفت أو ربما تباطأت فى السير ، لأنه كان لزاما على أن أعيد حساباتى مرة
أخرى ، إذ من الصعب أن أعيش بوجبة واحدة على أية حال . كنت مستغرقا ،
وأحسست برأسى ينتفخ ويتضخم كورم ، كورم لا شكل له ، ينبعج ويتمدد ويظل
يتمدد . حاولت إبقاء عينى مفتوحة ولكنها كانت تضيق ، تنفتح قليلا ثم ما
تلبث أن تضيق ، كهلال يحاول الاكتمال دون جدوى .
فى هذه اللحظة ، وقبل خمس دقائق من
الآن سقط شئ ثقيل فوق رأسى ، كان ثقيلا وضخما ، لم أشعر بشئ ، فقط بدا
الأمر كلطمة بسيطة فوق الرأس ، هكذا لطمة ليس إلا ، أستطيع أن أؤكد أننى
لمحت ظلا هائلا لهذا الشئ ، أيا كان فأنا لا أستطيع معرفته الآن ، واعتقد
أننى لن أستطيع أبدا . جرى ذلك فى طرفة عين ، شئ أشبه بانضغاطة بسيطة ، ثم
لا شئ بعد ذلك . هكذا كان الأمر ، عندما فشلت فى التعرف على نفسى ، بصورة
أدق وتثير الضحك فى الوقت نفسه ، لم أجد نفسى . بعد قليل ، وهذا القليل
يعنى تحديدا منذ خمس دقائق ، شعرت أننى ملتصق بالأرض ، أو معجون بها ،
وبعبارة أوضح : مفتت ومسطح فى سمك ورقة أو بردية قديمة ومهترئة . بدا
الأمر وكأن سماء من السموات السبع قد انطبقت على ، وعندما فكرت قليلا ،
قلت لنفسى إنها لابد أن تكون السماء السابعة ، لأنه لا شئ أكثر ارتفاعا من
السماء السابعة تجعلنى بهذه الطريقة أشبه بطبقة من طبقات الأرض .
ألق نظرة من فضلك ، من نافذة بجوارك ،
وانظر فى منتصف الشارع ، وبمواجهة دكان البقال تماما ، وأخبرنى أى شئ سقط
علىّ . أعتقد أن ذلك ليس مهما لى ، ولكنه بالتأكيد هام جدا لكم ، على
الأقل ليمكنكم تفسير كل شئ بطريقة علمية دقيقة .
منذ خمس دقائق حدث ذلك ، ومن وقتها لا
أستطيع النوم ، وليست لى القدرة حتى على البقاء مستيقظا . لا داعى لأية
حساسية أو عطف ، فأنا لا أتألم فعلا ، ولا أشعر بأى شئ
مطلقا . ولكن
ربما هناك خدمة عظيمة أستطيع إسداءها لى : أن تنظر فقط وتخبرنى ، هل يظهر
منى شئ ؟ أشعر بأننى مطمور .. لا توجد حتى دماء ! فهل أخفانى هذا الشئ
تماما ، وبينما تتأكد أنت من ذلك ، أجدنى لا أستطيع منع نفسى من إعادة
الحسبة مرة أخرى ، والتفكير فى أنه من الأفضل شراء ثلاث سجائر فقط وتوفير
الباقى لوجبتى الغد .
هناك شئ آخر ، حيث أننى أشعر أحيانا
بالاهتزاز أو قل بالارتعاش اللحظى ، فهل يمكنك أن تتأكد لى إذا ما كان أحد
المارة قد خطا فوقى ، أعتقد أن هذا سبب وحيد لتلك الاهتزازت التى تنتابنى
كل وقت ، وتلك الانضغاطة التى خمنت أنها ناتجة عن نقاش حاد بين رجلين ،
توقفا فوقى تماما قبل أن يبدءا عراكا . ربما كان ذلك صحيحا ، وربما كان
خاطئا ، إنها مجرد تخمينات . انظر من فضلك .. أنا هنا .. انظر لتتأكد ،
وأستطيع أن أهمس إليك بأننى فى شدة الاحتياج إلى تفسير ما ، انظر وأخبرنى
، هذا هام جدا .
منذ خمس دقائق بأكملها ، وأنا أقول أن
هذا هام جدا ولا تسمع ، بدأ دمى يفور الآن ، ألا تصدقنى ! انظر فقط ..
إنها مجرد نظرة . تقول أنك لا ترانى ، أنت تثير غيظى . خمس دقائق بأكملها
أتوسل إليك ، ألق هذه الأوراق القذرة من يدك وانظر ألا ترانى ؟!
كنت أقول منذ قليل إننى أريد تفسيرا ، وأنا الآن لا أريد تفسيرا ، أريدك فقط أن ترانى .. هل أنا موجود أساسا !!
آه .. هل ارتفع صوتى .. آسف .. إننى
أعتذر بكل إحساس متبق لى .. أعتذر .. أعتذر . ولكننى أرجوك أن تنظر ، انظر
فقط .. أنا هنا . أتوسل إليك .. انظر ، صدقنى أنا هنا ، أسفلك .. فى مكان
ما .