محمد الباز يكتب : الشهيد الحى.. وقائع اغتيال الحسينى أبو ضيف [color:96f5=#777]12/12/2012 5:46 AM
لم يكن الحسينى أبو ضيف مجرد صحفى يسابق الحدث فيسبقه، ولم يكن مجرد ثائر
يحلم بتغيير وجه وطن أرهقته الأحزان.. كان حالما كبيرا يعتقد أن الله خلق
الدنيا على جناح الخير والحق والجمال.. دون أن يدرى أن الشياطين فى كل مكان
وزمان يخطفون حلم الله فى الأرض.. ولم يكن من قتلوه إلا من هؤلاء
الشياطين.
كنا نعتبر كل من يسقط على عتبة الثورة شهيدا أخا.. كنا نحزن نغضب بعضنا
يبكى.. لكن عندما حاولوا اغتيال الحسينى ووجدناه على فراش بارد بلا حول ولا
قوة، أدركنا أن حزننا لم يكن كاملا.. وغضبنا لم يكن ناضجا.. وبكاءنا بعضنا
لم يكن حارا.. الآن عرفنا عندما سقط من عشنا معه، تقاسمنا معه الحلم
واللقمة، أن النار لا تحرق إلا من يمسكها، ونحن أمسكنا النار بأيدينا،
عندما كانت خطوط هواتفنا تتناقل خبر قتل الحسينى أبو ضيف.
هكذا كان الخبر أولا.. نقلته لى أميرة ملش.. قالت لى: قتلوا الحسينى، عرفت
منها أن عصام زكريا كان إلى جواره، فاتصلت به، سألته، فقال لى إن الحسينى
كان يقف إلى جواره،وأنه أصيب بطلق نارى فى رأسه سقط ميتا إلى جواره.. لم
يكن عصام يعرف أكثر من هذا، فقد أخذه أصدقاء له على موتوسكيل، لتبدأ رحلة
اكتشاف الحقيقة التى يعرفها الثوار الحقيقيون ولا يخافون منها، وهى أن
حياتهم لا تساوى شيئا أمام حرية الوطن.
اغتيال الحسينى أبو ضيف ليس مجرد قتل لشخص أو حتى لصحفى كان يؤدى واجبه
بنقل الحقيقة التى أراد الإخوان إخفاءها، ذبحوا معارضى الرئيس بدم بارد،
ولأنهم يريدون جريمة كاملة، فقد اعتدوا على الصحفيين وحطموا كاميرات
الفضائيات، حتى يروق لهم الجو، دون أن يعرفوا أن يد الله ليست معهم، ولكن
مع هؤلاء الذين يعملون من أجل أوطانهم.. وكان الحسينى واحدا منهم، يكتب
الحق بيد وبالأخرى يحمى الصور، يصور بعدسته جرائم أعداء الوطن ويلقى بجسده
على مواطن كى يحميه من غدر الإخوان.
وحتى يعرف العالم ما الذى فعلوه بالحسينى، لابد أن نجيب عن ثلاثة أسئلة،
يمكن أن تلخص لنا المشهد، ليس مشهد اغتيال الحسينى فقط، ولكن مشهد اغتيال
مصر كلها.
كيف قتلوه؟
كان الحسينى أبو ضيف فى الصفوف الأولى للمواجهة مع جحافل الإخوان
المسلمين، ليس عيبا أن نقول الآن إنه كان ثائرا بقدر ما كان صحفيا، كان
يؤدى عمله تجاه جريدته وفى نفس الوقت يؤدى واجبه تجاه وطنه، كان يقف على
بعد أمتار من الإخوان الذين يختفون خلف سواتر حديدية يقذفون الثوار بكل ما
توفر لهم بداية من الحجارة إلى طلقات الخرطوش.
وقف الحسينى فى الحديقة الوسطى لشارع الميرغنى، وجد الثوار يتجهون
ناحية الإخوان، أسقطوا السواتر الحديدية، أصبحت المواجهة وجها لوجه، وهو ما
لا يقدر عليه الإخوان، بدأ الحسينى يصور الحدث، استطاع أن يحصل على صور
توثق من يضرب الثوار بالرصاص والخرطوش، وقتها كان يقف إلى جواره صديقه
المقرب محمود عبد القادر، وبفرحة صحفى حصل على سبق، اقتنص الحقيقة التى لا
يمكن أن يغيرها أحد، وقف يشاهد ما صوره الحسينى.
يقول محمود: كان هناك عدد كبير من حولنا، نسمع أصوات المواجهة بين
الإخوان والثوار، كنت قريبا جدا من الحسينى، تكاد رأسى تلامس رأسه، وأنا
أشاهد ما حصل عليه من صور، سمعت طرقعة عظام رأسه، لم أعتقد للحظة أن
الحسينى أصيب، لكن الحقيقة كانت أقوى منى ومنه، وجدت الحسينى مقتولا إلى
جوارى.
بعد رحلة حزينة وصامتة بين مستشفيات الدمرداش وعين شمس التخصصى التى لم
يكن بأى منهما سرير فى العناية المركزة، وصل الحسينى إلى مستشفى الزهراء
الجامعى، ظل أكثر من نصف ساعة فى الاستقبال، ولهول المفارقة القدرية، فلم
يدخل الحسينى غرفة العناية المركزة إلا بعد أن توفى أحد الموجودين فيها،
وكأن الموت يخلى طريقا لموت جديد.
بعد أن دخل الحسينى إلى الغرفة نقلوا لنا ملابسه التى غرقت فى الدماء،
قالت الطبيبة المسئولة لمساعديها لا يوجد سرير آخر لو جاء أحد لن تأتوا به
إلى هنا، لم تكن قاسية القلب، على العكس تماما، لكنها كانت قليلة الحيلة.
أصيب الحسينى بطلق خرطوش فى الثانية صباحا وهو يمسك بالكاميرا الخاصة
به، قالت لى الطبيبة إن الطلقة جاءته من مسافة قريبة جدا لا يمكن أن تزيد
على مترين، ولذلك دخلت الطلقة إلى مخه وانفجرت داخل المخ وكسرت الجمجمة.
محمود عبد القادر قال إنه لم ير أحدا، لكنه رأى إصرارا من أحدهم على
أخذ الكاميرا من يد الحسينى وهو محمول على الموتوسيكل منقولا إلى المستشفى،
وكأن من قتله كان يعرف أنه حصل على صورته، ولذلك أراد أن يقتل الشاهد الحى
ويحطم الدليل على تورطه فى قتل الثوار.
حالة الحسينى الآن – وأنا أكتب ليلة السبت – لا تزال حرجة جدا، فالذين
قتلوه كانوا متعمدين أن ينهوا حياته تماما وبلا رجعة، وهنا أنقل من التقرير
الطبى النهائى الذى أعده الأطباء سامى إبراهيم كامل ومحمود كامل العوضى
ومحمد سليمان.
يقول التقرير: المريض محمد أبو ضيف حضر إلى استقبال المستشفى بتاريخ 6
ديسمبر 2012 الساعة الثالثة والنصف برقم طوارئ:73352 ادعاء الإصابة:
مظاهرات عند الاتحادية أمام القصر الجمهورى، عنوانه محافظة سوهاج حضر مع
إسعاف 758، بالكشف المبدئى على المريض تبين أن درجة الوعى متدهورة ووجود
جرح بالرأس وبمناظرة الأشعة المقطعية تبين وجود طلق خرطوش فى أماكن متعددة
بالمخ وكسر فى عظام الجمجمة الخلفية وكسر فى الفقرة الأولى عنقية ونزيف تحت
الأم العنكبوتية، وتم حجز المريض بقسم جراحة المخ والأعصاب وتحويله إلى
رعاية التخدير فى نفس التوقيت، وهذا تقرير مبدئى بالحالة ما لم تحدث
مضاعفات، ولا يمكن استجوابه ومدة العلاج أكثر من 21 يوماً، وتم حجز المريض
بقسم «ج» المخ والأعصاب بتاريخ 6 ديسمبر 2012 برقم قيد 12311 وتم تحويله
إلى قسم رعاية التخدير فى نفس التوقيت.
التقرير يلخص ما جرى للحسينى: بالكشف الطبى على المريض تبين أن درجة
الوعى متدهورة وحركة العين غير سليمة ومستجيبة للضوء ووجود جرح بفروة الرأس
والمريض تحت التنفس الصناعى وبمناظرة الأشعة المقطعية على المخ تبين وجود
نزيف تحت الأم العنكبوتية وتهتك بأنسجة المخ وكسر فى قاع الجمجمة وكسر فى
الفقرة الأولى عنقية ووجود أجسام غريبة بالمخ (خراطيش بالمخ) والمريض حالته
الصحية متدهورة، وما زال العلاج والتنفس الصناعى بالعناية المركزة.
الحسينى فى تقرير المستشفى ليس أكثر من مريض، دخل إلى العناية المركزة،
من كتب التقرير لا يعرف عنه، لم يقف أمامه ينعى أحلامه الكثيرة التى لم
يحقق منها شيئا بعد.
فى لحظة فارقة اكتشفت الحسينى أبو ضيف.. عمل إلى جوارى لسنوات، لكن
عندما وقفت أمامه وهو على طاولة باردة رأيت قوته، لم أره قويا كما رأيته
لحظتها، صدمتنى أحلامه التى خانته، خرج ليغير وجه الوطن، فلطمه الوطن على
وجهه.
عن قرب يتابع أقارب وأصدقاء الحسينى حالته، كلما تحرك منه إصبع تفاءلوا
أنه يمكن أن يقوم ويكمل حياته، رغم أن الحالة حرجة جدا.. يقترب فيها من
الشهادة، وهو ما كان يحلم به.. فالثورة بالنسبة له كانت تحتاج إلى دماء
جديدة، ولم يكن يعتبر دمه غاليا على الوطن أبدا.
لماذا قتلوه؟
السبب المباشر لقتل الحسينى أبو ضيف أنه سجل بالكاميرا من قتلوا الثوار،
حصل على وجوههم الكئيبة، قرر أن يفضحهم، قرر أن يعود إلينا بأسماء القتلة
وصورهم، معتبرا ذلك نصرا للثورة قبل أن يكون نصرا له شخصيا، لكن من أراد أن
يفضحهم كانوا قد قرروا قبله أن يقتلوه ويحرموه من شعوره بالنصر عليهم.
لكن هناك أسباباً كثيرة يمكن أن تدفع الإخوان المسلمين ومن يسيرون على
دربهم إلى قتل الحسينى عمدا، هو وغيره من الثوار الحقيقيين، لقد دعا
الحسينى إلى انتخاب محمد مرسى فى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، كان
من بين أعضاء «حزب اللمون» الذين فعلوا كل شىء حتى لا يصل أحمد شفيق ربيب
مبارك إلى السلطة، فلم يقم بالثورة – ظل فى الميدان 18 يوما كاملة قرر ألا
يغادره إلا بعد أن يغادر مبارك منصبه – لكن مرسى الذى دعا له الحسينى كان
هو من قتله.. أليس هو رئيس الجمهورية المسئول عن أرواح مواطنيه، والحسينى
مواطن من مواطنى الرئيس المنتخب، إذن فهو المسئول عن قتله.
عندما أدرك الحسينى أن الإخوان اختطفوا الثورة التى صنعها بدمه، لم
يتراجع فى الإعلان عن خصومته السياسية لهم، ومن البداية أدركوا أنه خصم
عنيد، مناضل يعرف كيف يعارض ويقف فى وجه السلطة الغاشمة، ضربوه فى الجمعية
العمومية الأخيرة لنقابة الصحفيين لأنه كان يقف ضمن من يطالبون بانسحاب
النقابة من اللجنة التأسيسية، لكنه لم يرتدع، فأمثال الحسينى لا يمكن أن
يخيفهم الضرب.. أو حتى القتل، ولو كان الإنسان يملك مصيره لقام الحسينى من
سريره الآن ونزل ليحاصر قصر الاتحادية من جديد.
عبر صفحته على الفيس بوك وحسابه على تويتر وجه الحسينى أبو ضيف مدفعيته
الثقيلة لنقد تجربة الإخوان، وهو النقد الذى اعتبروه تحريضاً عليهم، ولأنهم
لا يطيقون من يختلف معهم، ولأنه كان يواجههم فى الشارع، فقد قرروا أن
يتخلصوا منه.. فمثله يمثل خطرا على بقائهم وتجربتهم التى هى أهم لديهم من
أرواح المصريين جميعا.
من قتل الحسينى أبو ضيف؟
هناك الآن بلاغ من نقابة الصحفيين فيه اتهامات واضحة لمن تورطوا فى
قتل الحسينى، وهؤلاء نرفض أن نجادلهم أو نتحدث معهم، فهم قادرون على الجدال
حتى الصداع دون أن تخرج منهم بأى شىء على الإطلاق، نحن أيضا سنتقدم ببلاغ
إلى النيابة ضد من قتلوا الحسينى أبو ضيف، فالمصاب مصاب مصر كلها، ومصابنا
أيضا، واحد من آل البيت قتل على يد الإخوان ولابد من مطاردتهم حتى نحصل على
حقه.
لدينا متهمون محددون، محرضون إعلاميون قادوا شباب إخوان إلى
المواجهة الواضحة مع الثوار، وكان هذا التحريض سببا مباشرا فى قتل المصريين
من الإخوان وغيرهم، وهناك محرضون مدنيون، وهؤلاء أيضا لدينا أسماؤهم،
ولدينا شهود عليهم، كانوا يوجهون شعاع الليزر، وكأنها إشارة متفق عليها،
فمن يسقط عليه شعاع الليزر تتجه إليه ميليشيات الجماعة كى تنهى حياته
تماما.
المفاجأة كانت فيما قاله أحد أصدقاء الحسينى – نحتفظ باسمه- لكن نضع
أمامكم ما قاله، فقد اختطفوه الساعة 11 مساء أى قبل قتل الحسينى بساعات،
اصطحبه من خطفوه- يؤكد أنهم ينتمون إلى التيار الإسلامى -إلى مدينة 6
أكتوبر وعذبوه، وبعد ساعات سمع أحدهم يقول لأصحابه: الشيخ أسامة ربنا يكرمه
نش الواد الصحفى بتاع الفجر طلقة جابه الأرض. هذه واقعة لدى صاحبها
استمعنا إليها ولا نستبعد أبدا أنها حدثت، فهناك الشيخ أسامة الذى أطلق
الخرطوش على رأس الحسينى بدم بارد، وهو ما يجعلنا نقول إن ما جرى ليس إلا
عملية اغتيال متعمدة، ذهبوا من أجل أن يحصدوا حياة الحسينى لأنه أزعجهم،
عرفوه بصحفى الفجر، الذى أرهقهم وأرقهم ووقف كالغصة فى حلوقهم.
اغتيال الحسينى أبو ضيف ليس نهاية الطريق بالنسبة لنا أو بالنسبة
لمن قتلوه، هى بداية المواجهة، لقد أحرق قتل الحسينى مراكب كثيرة كانت
جماعة الإخوان تعتقد أنها تملكها، لقد أيقظت دماؤه التى نحتفظ بصورها وبها
على ملابسه، الوعى عند المصريين فواصلوا الهتاف ضد الإخوان.
لقد اعتصرنى الأسى والحزن عندما رأيت الحسينى بكل ما يمثله من حيوية
طريحا على سرير بارد، لكن الألم اعتصرنى أكثر عندما كانت المناضلة الكبيرة
كريمة الحفناوى تهتف أمام نقابة الصحفيين فى المسيرة التى خرجت من أجل
الحسينى: ولدى يا ولدى.. ومرسى قتل ولدى.
دع عنك أنها جعلت من مرسى سلطة غاشمة، فلم يغن المصريون: ولدى يا
ولدى السلطة أخدت ولدى إلا فى مواجهة سلطة غاشمة مستبدة، ما أشعرنى بالأسى
أن كريمة لم تكن تهتف بل كانت تنوح، صوتها كان مخنوقاً بالحزن والقهر وقلة
الحيلة أمام سلطة تقتل أولادنا وتريدنا أن نسمع ونطيع.
آخر الكلام
لقد وقفت إلى جوار عبد الفتاح على أمام غرفة الرعاية المركزية
نستمع من طبيبة الزهراء الجامعى شرحا لحالة الحسينى، لم تكن متفائلة..
لكنها كانت تطمئنا.. لم أتجاوب معها، كانت تقول كلاما قاسيا جدا.. وجدت
نفسى أوجه كلامى إلى المسيح الذى قتله يهود العصر وأقول: قاوم يا حسينى..
فيه حاجات كتيرة قوى ممكن نعملها أهم من الموت.